فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقال ابن عطية في الآيتين: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ}
هذه آية خوطب بها جميع العالم، والموعظة القرآن لأن الوعظ إنما هو بقول يأمر بالمعروف ويزجر ويرقق ويوعد ويعد، وهذه صفة الكتاب العزيز، وقوله: {من ربكم} يريد لم يختلقها محمد صلى الله عليه وسلم بل هي من عند الله و: {ما في الصدور} يريد به الجهل والعتو عن النظر في آيات الله ونحو هذا مما يدفع الإيمان، وجعله موعظة بحسب الناس أجمع، وجعله: {هدى ورحمة} بحسب المؤمنين فقط، وهذا تفسير صحيح المعنى إذا تؤمل بان وجهه، وقوله سبحانه: {قل بفضل الله وبرحمته}، الباء متعلقة بمحذوف استغني عن ذكره يدل عليه قوله: {وهدى ورحمة} قال بعض المتأولين وهو هلال بن يساف وقتادة والحسن وابن عباس الفضل: الإسلام، والرحمة: القرآن، وقال أبو سعيد الخدري: الفضل: القرآن، والرحمة أن جعلهم من أهله، وقال زيد بن أسلم والضحاك الفضل: القرآن، والرحمة: الإسلام، وقالت فرقتة: الفضل: محمد صلى الله عليه وسلم، والرحمة: القرآن.
قال القاضي أبو محمد: ولا وجه عندي لشيء من هذا التخصيص إلا أن يستند منه شيء إلى النبي صلى الله عليه سلم، وإنما الذي يقتضيه اللفظ ويلزم منه، أن الفضل هو هداية الله تعالى إلى دينه والتوفيق إلى اتباع الشرع، والرحمة: هي عفوه وسكنى جنته التي جعلها جزاء على التشرع بالإسلام والإيمان به، ومعنى الآية: قل يا محمد لجميع الناس: {بفضل الله وبرحمته} فليقع الفرح منكم، لا بأمور الدنيا وما جمع من حطامها، فالمؤمنون يقال لهم فلتفرحوا، وهم متلبسون بعلة الفرح وسببه، ومحصلون لفضل الله منتظرون الرحمة، والكافرون يقال لهم: {بفضل الله وبرحمته} فلتفرحوا، على معنى أن لو اتفق لكم أو لو سعدتم بالهداية إلى تحصيل ذلك، وقرأ أبي بن كعب وابن القعقاع وابن عامر والحسن على ما زعم هارون ورويت عن النبي صلى الله عليه وسلم: {فلتفرحوا}، و{تجمعون} بالتاء فيهما على المخاطبة، وهي قراءة جماعة من السلف كبيرة، وعن أكثرهم خلاف، وقرأ السبعة سوى ابن عامر وأهل المدينة والأعرج ومجاهد وابن أبي إسحاق وقتادة وطلحة والأعمش: بالياء فيهما على ذكر الغائب، ورويت عن الحسن بالتاء من فوق فيهما، وقرأ أبو التياح وأبو جعفر وقتادة: بخلاف عنهم وابن عامر بالياء في الأولى وبالتاء في الآخرة، وقرأ الحسن بن أبي الحسن وجماعة من السلف ورويت عن النبي صلى الله عليه وسلم بالياء في الأولى وفي الآخرة، ورويت عن أبي التياح، وإذا تأملت وجوه ذلك بانت على مهيع الفصيح من كلام العرب ولذلك كثر الخلاف من كل قارئ، وفي مصحف أبي بن كعب: {فبذلك فافرحوا} وأما من قرأ: {فلتفرحوا} فأدخل اللام في أمر المخاطب فذلك على لغة قليلة، حكى ذلك أبو علي في الحجة، وقال أبو حاتم وغيره: الأصل في كل أمر إدخال اللام إذا كان النهي بحرف فكذلك الأمر، وإذا كان أمرًا لغائب بلام، قال أبو الفتح: إلا أن العرب رفضت إدخال اللام في أمر المخاطب لكثرة ترداده، وقرأ أبو الفتوح والحسن بكسر اللام من {فلِتفرحوا}، فإن قيل: كيف أمر الله بالفرح في هذه الآية؟ وقد ورد ذمه في قوله: {لفرح فخور} [هود: 10]، وفي قوله: {لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين} [القصص: 76] قيل إن الفرح إذا ورد مقيدًا في خير فليس بمذموم وكذلك هو في هذه الآية، وإذا ورد مقيدًا في شر أو مطلقًا لحقه ذم إذ ليس من أفعال الآخرة بل ينبغي أن يغلب على الإنسان حزنه على ذنبه وخوفه لربه، وقوله: {مما يجمعون} يريد من مال الدنيا وحطامها الفاني المؤذي في الآخرة. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ}
قال أبو سعيد الخُدرِيّ وابن عباس رضي الله عنهما: فضل الله القرآن، ورحمته الإسلام.
وعنهما أيضًا: فضل الله القرآن، ورحمته أن جعلكم من أهله، وعن الحسن والضحاك ومجاهد وقتادة: فضل الله الإيمان، ورحمته القرآن؛ على العكس من القول الأوّل.
وقيل: غير هذا.
{فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ} إشارة إلى الفضل والرحمة.
والعرب تأتي بذلك للواحد والاثنين والجمع.
وروي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قرأ: {فَبِذَلِكَ فَلْتَفْرَحُوا} بالتاء؛ وهي قراءة يزيد بن القَعْقاع ويعقوب وغيرهما، وفي الحديث: «لتأخذوا مصافّكم» والفرح لذة في القلب بإدراك المحبوب.
وقد ذمّ الفرح في مواضع؛ كقوله: {لاَ تَفْرَحْ إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الفرحين} [القصص: 76] وقوله: {إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ} [هود: 10] ولكنه مطلق.
فإذا قيّد الفرح لم يكن ذمًا؛ لقوله؛: {فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ} [آل عمران: 170] وهاهنا قال تبارك وتعالى: {فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ} أي بالقرآن والإسلام فليفرحوا؛ فقيد.
قال هارون: وفي حرف أُبَيّ: {فبِذلِك فافرحوا}.
قال النحاس: سبيل الأمر أن يكون باللام ليكون معه حرف جازم كما أن مع النهي حرفًا؛ إلا أنهم يحذفون من الأمر للمخَاطب استغناء بمخاطبته، وربما جاءوا به على الأصل؛ منه: {فبذلك فلتفرحوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} يعني في الدنيا. وقراءة العامة بالياء في الفعلين؛ ورُوي عن ابن عامر أنه قرأ: {فليفرحوا} بالياء: {تجمعون} بالتاء؛ خطابًا للكافرين.
ورُوي عن الحسن أنه قرأ بالتاء في الأوّل؛ و{يجمعون} بالياء على العكس. وروى أبان عن أنس أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «من هداه الله للإسلام وعلمه القرآن ثم شكا الفاقة كتب الله الفقر بين عينيه إلى يوم يلقاه» ثم تلا: {قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ}. اهـ.

.قال أبو حيان:

{قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا}
قال الزمخشري عن أبيّ بن كعب: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ: {قل بفضل الله وبرحمته} فقال: بكتاب الله والإسلام فضله الإسلام، ورحمته ما وعد عليه انتهى.
ولو صح هذا الحديث لم يمكن خلافه.
قال ابن عباس، والحسن، وقتادة، وهلال بن يساف: فضل الله الإسلام، ورحمته القرآن.
وقال الضحاك وزيد بن أسلم عكس هذا، وقال أبو سعيد الخدري: الفضل القرآن، والرحمة أن جعلهم من أهله.
وقال ابن عباس فيما روى الضحاك عنه: الفضل العلم والرحمة محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن عمر: الفضل الإسلام، والرحمة تزيينه في القلوب، وقال مجاهد: الفضل والرحمة القرآن، واختاره الزجاج، وقال خالد بن معدان: الفضل القرآن، والرحمة السنة، وعنه أيضًا أنّ الفضل الإسلام، والرحمة الستر، وقال عمرو بن عثمان: فضل الله كشف الغطاء، ورحمته الرؤية واللقاء.
وقال الحسين بن فضل: الفضل الإيمان، والرحمة الجنة، وقيل: الفضل التوفيق، والرحمة العصمة.
وقيل: الفضل نعمه الظاهرة، والرحمة نعمه الباطنة، وقال الصادق: الفضل المغفرة، والرحمة التوفيق، وقال ذون النون: الفضل الجنان، ورحمته النجاة من النيران، وهذه تخصيصات تحتاج إلى دلائل، وينبغي أن يعتقد أنها تمثيلات، لأن الفضل والرحمة أريد بهما تعيين ما ذكر وحصرهما فيه.
وقال ابن عطية: وإنما الذي يقتضيه اللفظ ويلزم منه أنّ الفضل هو هداية الله إلى دينه والتوفيق إلى اتباع الشرع، والرحمة هي عفوه وسكنى جنته التي جعلها جزاء على اتباع الإسلام والإيمان.
ومعنى الآية: قل يا محمد لجميع الناس بفضل الله وبرحمته فليقع الفرح منكم، لا بأمور الدنيا وما يجمع من حطامها، فالمؤمنون يقال لهم: فليفرحوا وهم ملتبسون بعلة الفرح وسببه، ومخلصون لفضل الله منتظرون لرحمته، والكافرون يقال لهم: بفضل الله ورحمته فليفرحوا على معنى أنْ لو اتفق لكم أو لو سعدتم بالهداية إلى تحصيل ذلك انتهى.
والظاهر أن قوله: {قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا} جملتان، وحذف ما تتعلق به الباء والتقدير: قل بفضل الله وبرحمته ليفرحوا، ثم عطفت الجملة الثانية على الأولى على سبيل التوكيد.
قال الزمخشري: والتكرير للتقرير والتأكيد، وإيجاب اختصاص الفضل والرحمة بالفرح دون ما عداهما من فوائد الدنيا، فحذف أحد الفعلين لدلالة المذكور عليه، والفاء داخلة لمعنى الشرط كأنه قيل: إن فرحوا بشيء فليخصوهما بالفرح، فإنه لا مفروح به أحق منهما، ويجوز أن يراد بفضل الله وبرحمته فليعتنوا بذلك، فليفرحوا.
ويجوز أنْ يراد قد جاءتكم موعظة بفضل الله وبرحمته فبذلك أي: فبمجيئهما فليفرحوا انتهى.
أما إضمار فليعنتوا فلا دليل عليه، وأما تعليقه بقوله: {قد جاءتكم}، فينبغي أن يقدر ذلك محذوفًا بعد قل، ولا يكون متعلقًا بجاءتكم الأولى للفصل بينهما بقل، وقال الحوفي: الباء متعلقة بما دل على المعنى أي: قد جاءتكم الموعظة بفضل الله.
وقيل: الفاء الأولى زائدة، ويكون بذلك بدلًا مما قبله، وأشير به إلى الاثنين الفضل والرحمة.
وقيل: كررت الفاء الثانية للتوكيد، فعلى هذا لا تكون الأولى زائدة، ويكون أصل التركيب فبذلك ليفرحوا، وفي القول قبله يكون أصل التركيب بذلك فليفرحوا، ولا تنافي بين الأمر بالفرح هنا وبين النهي عنه في قوله: {لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين} لاختلاف المتعلق، فالمأمور به هنا الفرح بفضل الله وبرحمته، والمنهى هناك الفرح بجمع الأموال لرئاسة الدنيا وإرادة العلو بها والفساد والأشر، ولذلك جاء بعده: {وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا} وقبله: {إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم} وقوله: {لفرح فخور} جاء ذلك على سبيل الذم لفرحه بإذاقة النعماء بعد الضراء، ويأسه وكفرانه للنعماء إذا نزعت منه، وهذه صفة مذمومة، وليس ذلك من أفعال الآخرة.
وقول من قال: إنه إذا أطلق الفرح كان مذمومًا، وإذا قيد لم يكن مذمومًا كما قال: {فرحين بما آتاهم الله من فضله} ليس بمطرد، إذ جاء مقيدًا في الذم في قوله تعالى: {حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة} وإنما يمدح الفرح ويذم بحسب متعلقه، فإذا كان بنيل ثواب الآخرة وإعمال البر كان محمودًا، وإذا كان بنيل لذات الدنيا وحطامها كان مذمومًا.
وقرأ عثمان بن عفان، وأبيّ، وأنس، والحسن، وأبو رجاء، وابن هرمز، وابن سيرين، وأبو جعفر المدني، والسلمي، وقتادة، والجحدري، وهلال بن يساف، والأعمش، وعمرو بن قائد، والعباس بن الفضل الأنصاري: فلتفرحوا بالتاء على الخطاب، ورويت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال صاحب اللوامح: وقال وقد جاء عن يعقوب كذلك، انتهى.
وقال ابن عطية: وقرأ أبي وابن القعقاع، وابن عامر، والحسن: على ما زعم هارون، ورويت عن النبي صلى الله عليه وسلم فلتفرحوا وتجمعون بالتاء فيهما على المخاطبة، وهي قراءة جماعة من السلف كثيرة، وعن أكثرهم خلاف انتهى، والجمهور بالياء على أمر الغائب، وما نقله ابن عطية أن ابن عامر قرأ فلتفرحوا بالتاء ليس هو المشهور عنه، إنما قراءته في مشهور السبعة بالياء أمرًا للغائب، لكنه قرأ تجمعون بالتاء على الخطاب، وباقي السبعة بالتاء على الخطاب، وفي مصحف أبي: فبذلك فافرحوا، وهذه هي اللغة الكثيرة الشهيرة في أمر المخاطب، وأما فليفرحوا بالياء فهي لغة قليلة.
وفي الحديث: «لتأخذوا مصافكم» وقرأ أبو التياح والحسن: {فليفرحوا} بكسر اللام، ويدل على أنّ ذلك أشير به إلى واحد عود الضمير عليه موحدًا في قوله: {هو خير مما يجمعون}، فالذي ينبغي أنّ قوله تعالى: {بفضل الله وبرحمته}، على أنهما شيء واحد عبر عنه باسمين على سبيل التأكيد، ولذلك أشير إليه بذلك، وعاد الضمير عليه مفردًا. وقوله: {مما يجمعون} يعني من حطام الدنيا ومتاعها. اهـ.

.قال أبو السعود:

{قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا}
{قُلْ} تلوينٌ للخطاب وتوجيهٌ له إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليأمرَ الناسَ بأن يغتنموا ما في مجيء القرآن العظيمِ من الفضل والرحمة: {بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ} المرادُ بهما إما ما في مجيء القرآنِ من الفضل والرحمةِ وإما الجنسُ وهما داخلان فيه دخولًا أوليًا، والباء متعلقةٌ بمحذوف، وأصلُ الكلام ليفرَحوا بفضل الله وبرحمته للإيذان باستقلالها في استيجاب الفرحِ ثم قُدّم الجارُّ والمجرورُ على الفعل لإفادة القصرِ ثم أُدخل عليه الفاءُ لإفادة معنى السببيةِ فصار بفضل الله وبرحمته فليفرَحوا ثم قيل: {فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ} للتأكيد والتقريرِ ثم حُذف الفعلُ الأول لدلالة الثاني عليه والفاءُ الأولى جزائيةٌ والثانيةُ للدلالة على السببية والأصلُ إن فرِحوا بشيء فبذلك ليفرحوا لا بشيء آخرَ، ثم أُدخل الفاءُ للدلالة على السببية ثم حذف الشرطُ، ومعنى البُعد في اسم الإشارةِ للدلالة على بُعد درجةِ فضل الله تعالى ورحمتِه ويجوز أن يراد بفضل الله وبرحمته فلْيعتنوا فبذلك فليفرحوا، ويجوز أن يتعلق الباءُ بجاءتكم أي جاءتكم موعظةٌ بفضل الله وبرحمته فبذلك أي فبمجيئها فليفرَحوا وقرئ فلتفرحوا وقرأ أُبيّ: فافرَحوا، وعن أُبي بن كعب أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم تلا: {قل بفضلِ الله وبرحمتِهِ} فقالَ: بكتاب الله والإسلامِ، وقيل: فضلُه الإسلامُ ورحمتُه ما وعَد عليه.
{هُوَ} أي ما ذكر من فضل الله ورحمته: {خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ} من حُطام الدنيا وقرئ تجمعون أي فبذلك فليفرَحِ المؤمنون هو خير مما تجمعون أيها المخاطَبون. اهـ.